مدريد ــ “يا لصعوبة الموت !”. هكذا صاح فرانسيسكو فرانكو وهو على فراش الموت. ويبدو أن تقبل فكرة الموت أمر في غاية الصعوبة دوماً بالنسبة للحكام المستبدين، حتى عندما تكون وفاتهم راجعة إلى أسباب طبيعية.
إن احتضار الحكام المستبدين يكاد يشبه دوماً شكلاً من أشكال المسرح، يضم جماهير حاشدة منتشية، وخلفاء راغبين يتقاتلون من أجل البقاء على الساحة السياسية، ووراء الكواليس تحاول حاشية الدكتاتور جاهدة إطالة حياة بطريركهم إلى أن يتمكنوا من تأمين امتيازاتهم. حتى أن زوج ابنة فرانكو، الذي كان أيضاً طبيب العائلة، عمل على إبقاء المستبد المحتضر متصلاً بأجهزة دعم الحياة لأكثر من شهر.
وليس من الواضح على وجه الدقة لأي مدة كان رئيس فنزويلا الراحل هوجو شافيز ميتاً بالفعل قبل إعلان وفاته رسميا. الواقع أن المسؤولين في فنزويلا عملوا على كسب الوقت لتأمين مستقبلهم السياسي فتولوا إخراج مسرحية مرض شافيز ثم وفاته في نهاية المطاف، حتى أنهم زعموا قرب النهاية، وبينما كان شافيز خاضعاً لعلاج السرطان المعقد والمؤلم، أنه كان لا يزال “يمارس المشي والرياضة”. ويذكرنا هذا التعتيم بالسرية التي أحاطت بوفاة ستالين وماو تسي تونج، وممارسة الإمبراطورية العثمانية في الإبقاء على خبر وفاة السلطان سراً لأسابيع إلى أن تتم تسوية ترتيبات الخلافة.
إن التلاعب العاطفي بالمشهد الذي أحاط بوفاة شافيز يبدو وكأنه يترجم إلى دعم انتخابي لخليفته نيكولاس مادورو. ولكن هل يكون هذا كافياً لخلق خط نسب يعود إلى شافيز؟
في الأرجنتين، وعلى الرغم من كارثة عودة خوان بيرون إلى السلطة في عام 1973 بعد نفيه ثمانية عشر عاما، تجسدت البيرونية من جديد في الثمانينيات في رئاسة كارلوس شاول منعم، ثم مرة أخرى بوصول الرئيس نيستور كيرشنر، وفي وقت لاحق زوجته الرئيسة الحالية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر. والواقع أن خطابات فرنانديز الميلودرامية ليست سوى محاولة بالغة الوضوح لرفع زوجها الراحل إلى مرتبة القديسين، تماماً كما رفع بيرون زوجته إيفيتا إلى مرتبة القداسة. وكانت أقسمت عند توليها منصبها على الولاء ليس فقط للدستور بل وأيضاً لزوجها كيرشنر.
خلافاً للبشر الفانين، فإن الطغاة لديهم فرصة جيدة للتمتع بحياة افتراضية بعد الموت. ففي مصر القديمة، كان الفراعنة المتوفون يحنطون ويؤلهون. وبعد أغسطس، أول إمبراطور روماني، كان بوسع مجلس الشيوخ أن يصوت لمنح الأباطرة المتوفين مكانة مقدسة. ومن المؤكد أن هذا النوع من التأليه خدم المصالح السياسية لخلفاء الأباطرة، الذين بات بوسعهم أن يدعوا نسبهم إلى آلهة في حين يطمحون في الوقت نفسه إلى رفعهم هم أنفسهم إلى مصاف الآلهة.
وقد برع شافيز في السخرية من خصومه السياسيين، ولكنه كان أكثر نرجسية من أن يقترب من النهاية بذلك النوع من الفكاهة الذي ألهم الإمبراطور فيسباسيان وفقاً لسوتونيوس تعليقه الساخر وهو على فراش الموت: “آه .. لابد أنني أتحول إلى إله”. وأخيراً تم التخلي عن فكرة تحنيط جثمان شافيز بسبب الأضرار التي لحقت بالجثمان أثناء عرضه بشكل فوضوي على الجماهير في محاولة للاستغلال السياسي.
لا شك أنه ليس من الآلهة، ولكن ربما يكون قديسا. والواقع أن ما كان صالحاً بالقدر الكافي مع “القديسة إيفيتا”، كما وصفها الكاتب الأرجنتيني توماس إيلوي مارتينيز، قد يكون صالحاً لشافيز. ومثل الطاغية المحتضر في رواية جابرييل جارسيا ماركيز “خريف البطريرك”، الذي رثى عن حق المصير الذي قد يلقاه الفقير بعد وفاته، فإن شافيز سوف يظل لسنوات مقبلة رجل الخير والبر، الشهيد، ومخلص المعوزين في أعين أهل فنزويلا. بل إنه من المرجح أن يكتسب ذلك النوع من الخلود الذي اعتقد دوماً أنه يستحقه.
ويرجع جزء من الأسطورة في كل الأحوال تقريباً إلى الغموض الذي يحيط بظروف وفاة الزعيم. فالميتة الطبيعية العادية لا تتفق مع صورة البطل الخارق التي يتمتع بها البطريرك الذي يكافح أعداء الأمة. والواقع أن نظرية المؤامرة التي أشاعها مادورو بأن السرطان الذي أصاب معلمه كان نتيجة لسم “دسته له قوى الظلام التي أرادت إبعاده عن الطريق” ليست أصلية بشكل خاص، ولو أنها ترفع قيمة الرهان حقا. وحتى شافيز ذاته كان يتحدث دوماً عن تسميم معبوده سيمون بوليفار من قِبَل أعدائه في كولومبيا في عام 1830.
والواقع أن التاريخ، الأكثر خيالاً من الحقيقة، يقدم لمادورو عشرات من الأمثلة الإضافية. فهل مات نابليون بالتسمم البطيء بالزرنيخ أثناء منفاه في سانت هيلانة؟ وهل مات لينين بمرض الزهري، أم نتيجة لسكتة دماغية خطيرة، أم بالتسمم على يد ستالين؟ نظراً للظروف الغريبة المحيطة بوفاة ستالين ذاته، فهل مات مسموماً على يد رئيس الشرطة السرية لافرينتي بيريا، أو ربما على يد خصمه اللدود اليوغوسلافي جوزيف بروس تيتو؟ وهل تعرض “الزعيم العزيز” كيم جونج إل لنوبة قلبية على فراشه، أم توفي بشكل أكثر نباله أثناء رحلة بالقطار بينما كان يعمل من أجل رفاهية شعبه الحبيب؟ لا شك أن مزاعم التسمم بواسطة الإمبرياليين الأشرار كانت من بين مقومات الرواية الرسمية لوفاة كيم.
واستحضر مادورو ذاته الشائعة التي زعمت أن الإسرائيليين سمموا الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات. وكان بوسعه أيضاً أن يشير إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي وافته المنية نتيجة لأزمة قلبية في عام 1970؛ حيث يزعم الصحافي محمد حسنين هيكل، وكان من أبرز المقربين من ناصر، أن الرئيس مات مسموماً على يد نائبه وخليفته أنور السادات.
وبرغم أن أسطورة شافيز قد تظل باقية فإن التشافيزية لن تدوم على الأرجح، لأنها ليست عقيدة حقا، بل إنها تتألف من مشاعر تقوم في الأساس على رفض النظام السياسي القديم واختراع الأعداء. وهي تفتقر إلى الأسس المتينة التي قامت عليها البريونية على سبيل المثال، والتي كانت حركة شاملة اعتمدت على الطبقة العاملة التي اتسمت تقليدياً بالتنظيم الجيد وعلى البرجوازية القومية. أما التشافيزية فإنها بعيداً عن اعتمادها على الزعامة الكاريزمية لم ترق قط إلى ما هو أكثر من برنامج اجتماعي مرتبط بطفرة نفطية.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
Copyright Project Syndicate
For additional reading on this topic please see:
For more information on issues and events that shape our world please visit the ISN’s featured editorial content and Security Watch.