نيويورك ــ إن أغلب النِقاش الدائر حول كيفية التعامل مع محاولات إيران الرامية إلى تطوير قدراتها في مجال تصنيع الأسلحة النووية يركز على خيارين. الأول يتلخص في الاعتماد على الردع والتعايش مع إيران التي تمتلك ترسانة نووية صغيرة أو القدرة على تجميع السلاح النووي في فترة قصيرة. ويدور الخيار الثاني حول شن ضربة عسكرية وقائية تهدف إلى تدمير الأجزاء الحرجة من البرنامج الإيراني وعرقلة التقدم الذي أحرزته إيران بما يقدر بنحو عامين أو أكثر.
ولكن الآن ظهر خيار ثالث: التفاوض على سقف للبرنامج النووي، على ألا يكون هذا السقف منخفضاً بدرجة كبيرة بالنسبة لحكومة إيران أو مرتفعاً بدرجة أعلى مما ينبغي بالنسبة للولايات المتحدة، وإسرائيل، وبقية العالم.
الواقع أن هذا الخيار كان متاحاً لسنوات ــ وفي جولات عِدة من المفاوضات. ولكن ما تغير هو السياق. وأي تغيير في السياق قد يكون حاسما؛ بل إن ما يجري بعيداً عن طاولة المفاوضات يكاد يحدد في كل الأحوال تقريباً نتيجة المحادثات المباشرة.
ويتمثل أكثر التغيرات التي طرأت على السياق أهمية في تدهور الاقتصاد الإيراني بسرعة كبيرة. فقد أصبحت العقوبات المالية والمرتبطة بالنفط التي تم تنفيذها في الأشهر والسنوات الماضية موجعة إلى حد كبير. فهذه العقوبات ليست مصممة لعرقلة البرنامج النووي الإيراني بشكل مباشر، بل إنها تهدف إلى تضخيم الثمن الذي يتعين على زعماء إيران أن يتكبدوه نظير إصرارهم على ملاحقة طموحاتهم النووية. وكانت الفكرة (أو بدقة أكبر الأمل) تتلخص في أن الزعامات الإيرانية سوف تختار البقاء إذا اضطرت إلى الاختيار بين بقاء النظام أو امتلاك الأسلحة النووية.
وقريباً قد تخضع هذه الفرضية للاختبار في العالم الحقيقي. ففي الأسابيع الأخيرة انخفضت قيمة الريال الإيراني بنسبة 40% تقريبا، الأمر الذي أدى إلى زيادة حادة في معدل التضخم في إيران، فضلاً عن تكاليف الاستيراد والعديد من السلع الأساسية. وكانت النتيجة ظهور أول علامات الاستياء الشعبي من النظام منذ القمع العنيف للحركة الخضراء في عام 2009. والآن تبدي تذمرها أيضاً فئة التجار، التي كانت بمثابة إحدى أهم ركائز المؤسسة الدينية الحاكمة التي حكمت البلاد منذ ثورة 1979.
وهناك عوامل أخرى قد تمنح المفاوضات فرصة حقيقية. فالاضطرابات في العالم العربي تشير إلى أن أي نظام في الشرق الأوسط لم يعد محصنا؛ ولابد أن يكون زعماء إيران في غيبوبة إذا لم يدركوا هذه الحقيقة. في خطابه الذي ألقاه في الأمم المتحدة في أواخر سبتمبر/أيلول، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى استعداد إسرائيل لإعطاء العقوبات المزيد من الوقت، إلى صيف عام 2013 على الأقل. وهناك علامات تشير إلى أن الولايات المتحدة قد تأخذ على عاتقها تنفيذ ضربة عسكرية، أياً كان الفائز بانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الرئاسية، وهذا يعني قدراً من الدمار أعظم كثيراً من الدمار الذي قد تحدثه عملية عسكرية من جانب إسرائيل إذا تحركت بمفردها. ومرة أخرى، قد ينظر الإيرانيون إلى الحل الوسط باعتباره أقل التهديدات التي تواجههم خطرا.
حتى الآن كانت المفاوضات عشوائية ومتقطعة في أحسن تقدير. والحل الوسط الذي يقترحه المسؤولون الإيرانيون لا يقترب حتى مما كانوا ليقبلوا به في نظير تجنب العمل العسكري وتخفيف العقوبات. ولكن الوقت حان الآن لتقديم حزمة شاملة لإيران ــ ماذا ينبغي لها أن تقوم به والمكافأة التي ستحصل عليها في المقابل. ومن الأهمية بمكان أيضاً تحديد موعد نهائي لقبول إيران لمثل هذا الاتفاق، خشية أن تستغل فرصة المزيد من المفاوضات لكسب الوقت في تحسين قدراتها النووية.
ولابد من تحديد شروط دقيقة محكمة في كل الأحوال، ولكن إيران لابد أن تتخلى عن كل اليورانيوم الذي خصبته بنسبة 20%، وأن تتوقف عن التخصيب إلى هذا المستوى. ويتعين عليها أيضاً أن تقبل تحديد سقف لكم اليورانيوم الذي يمكنها معالجته أو تخصيبه إلى مستويات أدنى. وقد يكون من الضروري أيضاً تحديد عدد أجهزة الطرد المركزي ومواقعها. ولابد أن تكون عمليات التفتيش متكررة ومفاجئة من أجل طمأنة العالم الخارجي إلى ما تقوم به إيران ــ أو ربما ما لا تقوم به. وفي المقابل، تحصل إيران على تخفيف كبير للعقوبات المفروضة عليها نتيجة لبرنامجها النووي.
وعلاوة على ذلك، لابد أن تكون عناصر الاتفاق الأساسية علنية. وبهذا الطريقة، إذا تراجع النظام فسوف يكون لزاماً عليه أن يفسر لشعبه سبب عدم استعداده للتخلي عن برنامج الأسلحة النووية، على الرغم من المقترحات الأميركية المعقولة التي لم تكن مصممة لإذلال إيران، والتي كانت لتعد في حال قبولها بتحسن كبير في مستويات معيشة الإيرانيين.
من المحتمل أن يدفع السياق الاقتصادي والسياسي الجديد حكام إيران إلى قبول ما رفضوه حتى الآن. ومن ناحية أخرى، إذا ظل النظام مصمماً على ملاحقة أهدافه النووية، بصرف النظر عن التكاليف، فسوف يتبين لنا بوضوح عدم وجود أي بديل للخيارين الأولين: فإما مهاجمة المنشآت الإيرانية أو التعايش مع إيران المسلحة نوويا. والواقع أن الخيارين مكلفان ومحفوفان بالمخاطر، ولكن الرأي العام في الولايات المتحدة بشكل خاص لابد أن يدرك أن إيران هي التي رفضت البديل المعقول للحرب قبل أن تبدأ.
وإذا جد الجد، فسوف يكون من صالح الحكومات الأخرى أن تعرف أن الولايات المتحدة و/أو إسرائيل لم تقرر الهجوم إلا بعد أن عرضت على إيران مخرجاً يحفظ لها ماء وجهها. وهذا من شأنه أن يقلل من صعوبة مواصلة الضغوط الاقتصادية على إيران في أعقاب أي هجوم.
والتعامل العلني مع الأمر تصرف معقول ومنطقي لسبب آخر: إذ يتعين على الشعب الإيراني أن يعلم أن أي هجوم تتعرض له بلاده فهو هجوم جلبته على نفسها إلى حد كبير. وقد يساعد هذا الإدراك في إخراس أي محاولات “للحشد الوطني”، وبالتالي فلا نستبعد احتمالات تغيير النظام في المستقبل.
نحن نميل إلى التفكير في الدبلوماسية باعتبارها أموراً تجري في طي الكتمان؛ ولكن في بعض الأحيان قد يكون من الأفضل أن تخرج إلى العلن. وهذه لحظة تستلزم العلن. ولكن الوقت عنصر بالغ الأهمية؛ ويتعين على الدبلوماسية أن تتحرك بسرعة أكبر خشية أن تسبقها إيران في مسيرتها نحو تصنيع السلاح النووي ــ ومعها المسيرة إلى الصراع والشقاق.
ترجمة: هند علي Translated by: Hend Ali
For further information on the topic, please view the following publications from our partners:
Israel: Possible Military Strike Against Iran’s Nuclear Facilities
The Iranian Nuclear Imbroglio and the NAM Summit
Iran’s Nuclear Program: Tehran’s Compliance with International Obligations
For more information on issues and events that shape our world please visit the ISN’s Security Watch and Editorial Plan.